الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
قبل أيام معدودات نزلت منا الدمعات فرحاً بدخول شهر الرحمات، وابتهاجاً بحلول موسم الطاعات، واليوم وما أدراك ما اليوم؟
اليوم تتقرح الأكباد على فراق شهرنا الكريم، اليوم تدمع العيون، إنها ليست دمعات الفرح بمقدم رمضان؛ لكنها دمعات الأسف الشديد.
دمعات الأسى والحزن على فراق شهر رمضان الذي قال عنه الله - عز وجل -: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.. الآية}1.
فما كان أحلاها من أيام، وأحلاها من ليالٍ، وأجملها من لحظات، إنها تستحق البكاء والنحيب، ولا ينظر إلى لوم اللوام في ذلك.
يا لائمي في البـكا زدنـي به كلفاً واسمع غريب أحاديـث وأشـعار
ما كـان أحسننا والشـمل مجتمـع منا المصلـي ومنا القـانت القاري
وفي التـراويح للـراحات جامعـة فيها المصـابيح تزهو مثل أزهـار
شـهرٌ به يُعتـق الله العصـاة وقـد أشفوا على جُرف من حـصة النار
فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا مـا قد بقي فهو حقٌ عنكم جاري
ذهبت ساعات رمضان بما فيها، ذهبت بالصلاة والخشوع، ذهبت بالبكاء والأنين، ذهبت بالاستغفار والتهليل والتسبيح.
ذهبت لتشهد للمخبتين عند رب العالمين، ذهبت لتسطر في التاريخ صور الإبداع والجمال التي نقشها الصالحون، ذهبت لتعلن نتيجة السباق التي استمرت شهراً كاملاً، وكان فيه من التنافس والمسارعة ما يبعث الأمل في القلب أن الأمة لا زالت بخير.
ويبقى أمر مهمٌ حتى تتأكد معالم الخير في الأمة نقول لمن أجهدوا الأجساد في هذا الشهر؛ لترتاح الأرواح: أتبع الحسنة الحسنة، واختم عملك بالاستغفار فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره، وبعد سنوات من الجهاد، وزمن من الكفاح والسعي في الله - عز وجل -.
والاجتهاد في الطاعات؛ يقول له الرب - جل في علاه - {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}2، فيكثر المسلم من الاستغفار بعد كل طاعة؛ علَّ ذلك أن يسد ما فيها من خلل، ويكمل ما فيها من نقص.
وليس ذلك فقط، بل لا بد أن يكثر أهل الطاعات - بعد الفراغ منها - من الدعاء بأن يتقبل الله - عز وجل - الأعمال {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}3، وقد جاء أن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} قالت عائشة: ((هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟
قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات))4، وهذا نبي الله إبراهيم - عليه السلام - بعد إكماله لبناء بيت الله العتيق هو وابنه إسماعيل - عليه السلام - يلهج بالدعاء أن يتقبل الله منهما ما قدما {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}5.
نقول هذا الكلام لمن قطع رمضان وهو في صلاة وصيام، وذكر ودعاء، ورجاء وبكاء، فما عسانا أن نقول لمن فرط في هذا الموسم العظيم؟ ما عسانا أن نقول لمن لم يذق لذة العبادة؟ ولم يعرف لرمضان قدره، فأذهب أيامه ولياليه بالبعد عن الله، واقتراف المعاصي والمنكرات، واقتحام الآثام والسيئات.
فهنيئاً لمن كان من أهل رمضان، وتعساً لمن كان من أعداء رمضان، هنيئاً لمن خرج من هذا الشهر الكريم بالعتق من النار، والفوز بتقوى الملك الجبار، وتعساً لمن فارق هذا الشهر ولم يحصل على ما يتزود به إذا كان يوم الحشر
تـزود بالذي لا بد مـنـه فإن اليوم ميقات العباد
وتب مما جنيت وأنـت حي وكن متنبهاً قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيـق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وتقبل ما عملنا في هذا الشهر الكريم من خير، واغفر لنا ما كان في شهرنا هذا من تقصير وشر، اللهم هب المسيئين منا للمحسنين، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة؛ وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 سورة البقرة (184).
2 سورة النصر (1-3).
3 سورة المؤمنون (60).
4 الترمذي برقم (3175)، وقال الألباني:صحيح، انظر صحيح الترمذي (3/79).
5 سورة البقرة (127).
الكاتب: د. يوسف بن محمد الحويجي
المصدر: موقع إمام المسجد